الأعداد السابقة

قمرٌ أوسع من سمائه

أحمد المعرسي

 وحده الشاعر يتشح بنوره، ويحتجب بشدة ظهوره، ووحده الشعر القادر على أن يصلب الليل على سنارة المجاز، ووحده ا لشاعر / زياد القحم يستطيع أن يكون سماءً وقمراً في آن واحد؛ فهو حين يأوي إلى مغرب الشعر تشرق من روحه شاهقات المعاني، وحين تغفو له نجمةٌ تقول سماواته: لا أحب الأفول.


وأنا أحاول أن أحملكم إلى سماواته يخطر في بالي أن ثمة شهاباً يترصد براق حرفي الأعرج، وأن سماواته طرزت بالمجاز؛ لهذا سوف أحاول أن أرقب أنواره من بعيد، وأكتب ما لاح لي.

إن المتصفح لديوان ( تكاسير القمر) للشاعر/ زياد القحم يجد بين طياته شاعراً أفلت من قبضة الوقت، وأمسك بناصية المعنى مردداً: 

ثم جئت على مطرٍ

_ يا زياد_

خلفك النار في شغلها

وأمامك نورٌ مبينٌ

وأنت المسافر بينهما

في ربوع السوادْ

ومن هنا يمكننا أن نضع نقطة البدء التي سنرسم حولها سماءً افتراضية لقمره المكتمل به، المحتجب عنا بلغته المفتوحة على فضاءات التأويل، ولنا أن نطارد أنواره بالسو:

قرص القمر الآن

تقاسم إخواني في الأوجاع

وكلٌّ يحمل منه قطعة ضوءٍ في مذهبه

ويقول لنقعٍ يتطاير خلف مطيته:

القمر معي، والباقون بلا قمرٍ

والقمر المقسوم على المختلفين

يخبئُ ضحكته

يسخر من عجز الظالم

من كفر المظلوم، ومن ظلم لا ينفدْ

لقد كُتِبَ ديوانُ ( تكاسير القمر ) بفلسفة الضوء؛ فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من فجرٍ عاشقٍ، أو من جذوة شوقٍ، أو من قمرٍ مصلوبٍ في أحداق المعنى، غير أن الشاعر يجزم أننا نشاهد على صفحة الماء صورة لأقماره لا أكثر:

الموهومون بوصل القمر الآن

أمامي في مرآة اللحظة

إن القصيدة عند زياد القحم قمرٌ مكتملٌ كلما اقتربت منه ازداد اتساعا، ورغم ذلك مهما حاولت رسمه لن تستطيع؛ فهو يكثف اللغة حتى تصبح شمس الفكرة قلادة في عنق المعنى:

ليس هذا خريري 

أنا في السحاب التي تتلوى مواقيتها

من لظى زمن فائق الجدب

يروي حكايات أبنائه

كيف أغرقهم ذات سجادة

شوقُهم للمثول

إن ديوان ( تكاسير القمر) بستان مثمر؛ كل زهرة فيه تخفي بين أكمامها استعارة أو خيال، كما أن لغة الديوان مبنيةٌ على الجمال دائما، فقد استطاع الشاعر أن يغري اللغة بتراكيب خارجة عن المألوف لدى أقرانه الشعراء، فهو يطوع اللغة بوعي اللغوي الحاذق، ولكنه يحرر اللغوي المتخفي بداخله من قيود اللغة الجامدة:

ليت أنك يوم التوقع _ يا وقعاً_ كنت أوردت بعض احتمالٍ

بأن ربما يمطر الغيم

أو ربما تشرق الشمس

أو ربما سوف يَطْلُعُ من أثر السوط جيلٌ مداركه لا تخاف السياطْ

فـ(ليت) و(أن) أداتا نصب تعملان ذات العمل؛ جاءتا متتاليتين، وعلى بعد جملة اعتراضية منها فعل ماضٍ ناسخ؛ حيث صير الشاعر أن واسمها وخبرها في محل نصب بليت،  إنها محاولة للتفرد في بناء الجملة الشعرية؛ تفرد في المعنى ، وتفرد في المبنى، كما أن الشاعر ترك مساحة للقارئ ليشكل في مخيلته المعنى الذي أراده ، فنجده في قصيدة (شاعرا كان) يتحدث عن القصيدة قائلاً:

لكنه عن تفاصيلها اليوم في شُغُلٍ فاكهٌ

وهنا يظهر اشتغالٌ جديد للشاعر على اللغة المتعددة  المعنى ، و يظهر انشغاله عن الشكل باكتمالات  أقمار اللغة؛ فتلاحظ في الجملة الشعرية السابقة أن الشاعر كان  بمقدوره  أن يستغني عن مفردة ( فاكهٌ) وفي ذات الوقت تكون الجملة قد استوفت أركانها، وكان بمقدوره أيضا الاستغناء عن جملة الحال ( عن تفاصيلها اليوم في شغل ) ويبقى المعنى مستقيما، فما الذي جعل الشاعر يصنع كل ذلك؟ إنها فتوة المعرفة حين يأوي الشاعر إلى ظل روحه وقد أدرك أسرار اللغة الأنثى ؛ حينها لا يكون بوسعه  إلا أن ينادي : (رب  إني لما أنزلت إلي من خير فقير)، كما أن استدعاء مفردة (فاكهٌ) هنا لم تأتِ عبثاً،  وإنما هي استدعاء لقول الحق سبحانه وتعالى: ( إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون):

سوف آوي إلى جدلٍ

يعصم الآن ظلي من الشمس

سرى من الهمس

وهنا تتسع دائرة الاشتغال، ويظهر ذلك من خلال التناص مع قول الحق سبحانه وتعالى : ( سآوي إلى جبلٍ يعصمني من الماء) ولكن التناص هنا أكثر إدهاشاً من التناص الوارد في القصيدة  السابقة؛ وكأنما أراد  الشاعر المسكون بأقماره  وسماواته الخاصة  أن يقول: إنني أكره أن تتطاول شمس على ظلي، أو أن  أصبح ظلاً لأحدٍ؛ إنه الشعر المورق بعشق التفرد الذي أنضجه الوعي:

ما الذي أشعل الآن

أنشودتي العاطلة

ما الذي جعل الشمسَ

تهجر قافيتي للأبدْ

يمثل ديوان ( تكاسير القمر) حالة إبداعية ناضجة لم تجافِ الذكرة العربية ومخزونها المعرفي، ولم تتنكر لخصوصية الحاضر ومغريات أشكاله الفنية:

أحبُّ الصالحين ولا أرهم

متى يأتون؟ إن العمر ساعة

ومن أي الجهات يضيءُ لحنٌ

يجيءُ بهم وأقترف استماعه

إن الكتابة عند الشاعر / زياد القحم  محاولة لرسم العالم بريشة الضوء، غير أنه يشكل أنواره  من :

بحر أصفر مجزوء اللون

الفلك عليه جراحٌ تتنقل نازفةً فكراً

والفكرة يومٌ في رزنامة أهل البحر بلا غدْ

غير أنه يؤمن أن الطريق أمامه ما زال طويلاً؛ لأن سنين حروفه ضوئية ، وغيومه فكرة في سماء الاستعارات:

طال الطريق وهدني المسعى

وأنا أجفف داخلي الدمعا

كيف اللقاء بمن شغفتُ بِهِ

أم كيفَ أعبر هذه الأفعى

للشاعر / زياد القحم أن يشكل أقماره كيف يشاء، ولنا أن نصوم لرؤية أقماره، وأن نكتب لرؤيتها؛ فهو بدر سماء الجيل الألفيني المكتمل، وسماء نجومه، وللشعراء أن ينتظروا حين تحاول  غيمةٌ عاشقة أن تلثم بدره ؛ كي يشعوا ليرى الناس بريقهم.

حول الموقع

إل مقه - نادي القصة اليمني