الأعداد السابقة

لعبتي

نبيهة محضور

بدا الطريق الذي أمشـي فيه أن لا نـهاية له، تتعثـر خطواتي المتـرنحة مرات، تقودني قدماي إلى المجهول...أبحث  منهكاً عن مكان أحط فيه رحالي مشيت طويلاً، لم أعد أدري هل أسافر بعيداً  أم أن الأماكن تسافر بعيداً عني؟ بدأ الضوء هو الاخر يسافر، يختفي خلف ظلمة روحي، وصلت إلى هناك حيث لا أدري أين أنا؟


عند نهاية سور طويل، كمشوار حياتي  القصيرة الطويلة، ألقيت بجسدي المتهالك على بقايا (كرتونة) مهترئة، يبدو أنـها كانت مأوى لمن هم مثلي بلا مأوى لأرواحهم المعذبة، جلست مستنداً على جدار ذلك السور، رأسي يكاد يلتصق بصدري، ذراعاي تحيطان بساقيّ، تكورت على نفسـي، جبال من الـحزن تجثم على صدري! الآلام تنهش لـحمي.. الجوع يمزق أمعائي، لم أعد  أدري منذ متى أسافر جائعا؟ مواء القطط وعواء الكلاب وحده يشعرني بأنني ما زلت على قيد الحياة، روائح القمامة تسري في المكان، تختلط مع رائحة بقايا البشر المتناثرة هنا وهناك... يا لها من نهاية!!


رفعت رأسـي.. نظرت إلى هناك.. المدينة تسافر بعيداً عني،  فقط أضواؤها الخافتة تتـراقص أمام عينـيِّ الذابلتيـن اللتيـن تبتلعهما الصفرة، ويحيط بهما السواد، سافرت ببصري بين تلك المساكن البعيدة إلى هناك، حيث مسقط رأسـي، يبدو أنه هناك في ذلك الشارع، لا.. أظن أنه في الجانب الأخر من المدينة، أوه.. لم أعد أستطيع تحديد مكانه، آه.. منـزلي.. كم أشتاق إليه ولمن فيه، كم أحتاج أن تضمني جدرانه، سنوات عديدة مرت مذ هجرته.


هذا المكان الذي تفوح منه رائحة الموتى، يشبه ذلك المكان الذي فررت إليه منذ عشرة أعوام، يومها كنت في الثانية عشر من عمري. يا لها من ليلة عصيبة بتُّ فيها وحيداً، خائفاً، مخيفة أصوات القطط والكلاب كانت تفزعني، ارتجفت أوصالي وأنا أتكوم على نفسي كما أنا اليوم.


كنت ألعب وأترابي في حّينا الشعبي حيث المساكن تتقارب وكأنها تناجي بعضها البعض، صديقي سامي كان محظوظاً، ألعابه ترافقه دائماً.. اشترى له والده لعبة جميلة، هدية نجاحه في المدرسة، وددت لو كان لديٌّ مثلها، في اليوم التالي عدت فرحاً أحمل شهادتي بيدي، عرضتها على والدي، والدي الذي لم يعرها أدنى اهتمام.. وددت وقتها لو يضمني إلى صدره، أن يشتـري لي مثل تلك اللعبة التي تتوق نفسي لامتلاكها.. توجهت لدكان العم صالح القريب من منزلنا، تأملت تلك اللعبة وكلي أمل في اقتنائها..


في اليوم التالي كنت فرحاً به! دخلت مسرعاً إلى غرفتي لألعب بها، بدأت أتلمسها، صوت والدي وقتها كاد يدك البيت دكاً..


- ييه أنتِ يا مرة أين أنتِ.. شلّوكِ الجن..

- مالك يا رجال صل على النبي لما هذا الصياح؟

- ين الخمسمائة ريال التي كانت في جيب الكوت؟ تراها حق القات؟ 

- لا أعلم عنها شيئاً..

- إذاً ابنك من أخذها..


تسمرت مكاني.. انزويت في إحدى زوايا الغرفة وأنا أحتضن لعبتي التي لم أداعبها بعد، صوته كان يعلو.. يزمجر.. يقترب منى.. أمي المسكينة تحاول منعه دون جدوى، ركل الباب بقدمه، الشرر يتطاير من عينيه، يده تقبض على خيزرانته التي اعتادت أن تلهب جلدي، تقدم نحوي، أوصالي كانت ترتعد من الخوف! إنهال عليَّ ضرباً، أمي تحاول دفعه عني، لم تستطع، رمت بنفسها فوقي ليتلقى جسدها لسعات الخيزران، ما زلت أتذكر توسلها لوالدي دون جدوى، سحبها من شعرها.. دفع بـها بعيداً، كانت تصرخ متوسلةً، صرخت بي «اخرج» فررت تاركاً المنـزل وتاركاً لعبتي وأمي تئـن تحت سياط والدي..


تـهت وأنا أركض في شوارع المدينة، كنت أركض وأركض مذعوراً، وكأن المدينة كلها تركض خلفي، كانت الشمس قد قاربت المغيب، لم أجد إلا ذلك المكان لأنزوي في إحدى زواياه، بكيت ليلتها كثيـراً  إلى أن غفاني النوم، استيقظت على صدى ضحكاتهم وترنحهم..


- ها.. لدينا ضيف الليلة.

- من يكون يا ترى؟


جلست مذعوراً.. خائفاً، اقتـرب منـي أحدهم، ربت بكفه على كتفي، أمرهم بعدم الاقتراب مني، مد يده إليّ قائلاً: 


- لا تخف.. ما اسمك؟

- عمر، أجبته، اسمي عمر.

- هل أنت جائع؟ إليك هذا الطعام.


سكنت روحي قليلا حينما شعرت بتودده إليَّ، ذلك الشاب كان في ضعف عمري حينها، سقطت دمعة حارة من مقلتيه وهو يستمع إلى قصتي، بعد أن سألني عن سبب هروبي من المنزل، وصفت له جبروت والدي وقسوته عليَّ وعلى أمي المسكينة، لم نكن نعرف منه إلا قرع الخيزران، ولم يكن ليهتم بشيء مثل اهتمامه ب (القات)


حدثته عن صديقي سامي الذي كثيـراً ما كنت أحسده على ألعابه، على عطف والده عليه، على حياته، كم تمنيت أن يكون والده والدي، تمنيت أن أكون هو..


صديقي الكبير (حسن)  كان مختلفاً عن أصدقائه الأخرين، حزن كبير يلفُّ عينيه! وطيبة كبيرة تسكنه، طلب مني العودة إلى المنـزل، ترجاني أن أفعل ذلك، اختنقت العبارات في حلقه وهو يقول لي «يكفي ما أصابنا من ضياع، يجب أن تعود» ولكني رجوته أن أبقى معه، كنت خائفاً من العودة، صورة والدي الغاضب وصوت عصاه وهي تقطع الهواء لتسقط على جسدي، منعني من العودة.


بدأت حياة جديدة معهم أولئك مجموعة من المشرًّدين فروا من سـجن العائلة الصغيـر إلى فضاء الشوارع، كلٌّ منهم له حكاية  كانت سبباً في وجوده حيث أنا الأن.. 


مرت أيام، شهور، سنوات، التحفنا فيها الأرصفة الباردة وتوسَّدنا الخرائب النتنة، نتقاسم في المساء حصيلة تشرد النهار، كان حسن بمثابة الأخ الأكبـر، الـحائط الذي أستند عليه، تلك الليلة لم يعد صديقي إلى المسكن حتى الصباح بحثنا عنه في اليوم التالي في كل الأماكن التي نعرفها، لم نجده، عشت ليلة بائسة، كئيبة، بكيت كثيـراً حينما علمت بنبأ وفاته بعد أن دهسته ناقلة في عرض الطريق، شعرت بالوحدة، بالخوف، كالوحدة والخوف التي أشعر بهما في هذه الليلة!


آآآه.. لم أعد أحتمل الجلوس.. حررت ساقيًَّ من ذراعي، ألقيت بجسدي الهزيل على  تلك الكرتونة الممزقة كروحي المبعثـرة، تمددت على ظهري، فردت ذراعي النحيلتين، بقع سوداء تتوزع عليها..


صافحت عيناي وجه القمر، تأملته، يا لجمال سناه! يشبه وجه أمي.


آآآه.. أمي الحبيبة كم أحتاج إليك اليوم تخففين آلام روحي، تمنيت رؤيتك أكثر من مرة، كثيراً ما كنت أقف على مشارف الحي متخفياُ علَّني أراكِِ، أعلم ما عانيته بسبب فراقي حتى ابيضَّت عيناك حزناً عليًّ! كم أحن إلى رؤيتك الأن، إلى صدرك الحنون، كم أشتهي كعكك اللذيذ ليسدَّ جوعي.


آآآه.. الألم  يكاد يفتك بي.. أين انتِ يا أمي؟ أشعر بالغربة.. بالوحشة.. دوائر تحلّق فوق رأسـي، أمي.. سنا القمر.. لعبتـي، عيناي بدأتا بالانطفاء، جسدي يُسلب منـي.. العالم يختفي رويداً رويداً، روحي تحلق بعيداً، وجه القمر يغيب مع وجه أمي، مواء القطط وعواء الكلب الجائعة وحده يقطع تلابيب الصمت.

 

حول الموقع

إل مقه - نادي القصة اليمني