الأعداد السابقة

القمريات.. حضور (إل مقه) في ذاكرة المعمار اليمني

تحقيق: رانيا الشوكاني

 ألوان زاهية، وأشكال متنوعة وتاريخ عريق. تعتلي النوافذ ببهاء وكأنها تاج رصع بجواهر متعددة ألوانها وتضفي على المنازل رونقاً بهياً يعكس تميز البناء اليمني، وحرفية ومهارة عالية لصانعيها. القمرية اليمنية، ذلك الرمز الجمالي القديم قِدَم الحضارة اليمنية الذي حافظ على مكانته عبر الزمن مخلداً الجمال مع المعتقد.


 


القمرية (العقد)


 


فتحة دائرية أو نصف دائرية تعتلي النوافذ أو الأبواب تزخر بأشكال زخرفية وألوان زاهية متنوعة تسمح بنفاذ الضوء بعد إغلاق النوافذ. يرجح أن سبب تسميتها «بالقمرية» يعود للمعتقدات الدينية القديمة حيث أن الأجرام السماوية كانت تعبد في اليمن ومنها «ذي حميم» إله الشمس و عثتر أو عشتار «الزهرة» «وإل مقه» إله القمر، وبذلك فقد جسدت القمريات بشكلها الدائري الشبيه بالقمر وجود الإله «إل مقه» واستحضر بنقائها وشفافيتها اللذين يعطيان ضوءاً خافتاً لؤلؤياً صافياً في السكن.



تاريخها 


 


تعود بداية استخداماتها الأولى لبعد ميلاد المسيح في الحضارات الأوروبية ثم انتقلت للحضارة الإسلامية. أما في اليمن فتعود كما ذكر «د/ هشام إسحاق» في كتابه «تأصيل عناصر التراث العمراني وقيمه الحضارية في العمارة العربية الحديثة» وكما ذكر أيضآ الباحث البريطاني «تيم سميث» في دراسة علمية بعنوان «مباني صنعاء وموادها» أن تاريخها يعود إلى ما يقارب 4000 عام. بينما يذهب الهمداني في كتابه «الإكليل» بأنها تعود إلى ما قبل ظهور الإسلام. 


 


أشكالها 


 


للقمريات أشكال متعددة وما نراه الآن ليس سوى نسخة محدثة من القمريات الأصلية. حيث تغير المدلول الديني والعقائدي وأدخلت عليها التعديلات لتصبح عنصراً جمالياً بعد ذلك. ومن أشكالها، الدائرية، والشكل المستطيل الذي يحوي شكلاً دائرياً من الأعلى وتحوي بعض العقود فتحتين إلى تسع فتحات دائرية صغيرة متقاربة في شكل هندسي بديع. وهناك نوع داخلي وخارجي وقد رافق تحديثاتها ظهور الشكل المزدوج الذي يجمع كليهما، داخلية مطعمة بزجاج ملون وخارجية بالزجاج الأبيض وتفصل بينهما مسافة (15/20) سم. ويكثر استخدامها في الطوابق العلوية حيث أن الطبقة الخارجية تحمي الداخلية وتكسر أشعة الشمس. وتتنوع زخرفتها حسب خيال الحرفي ومهارته وحسب طلب شاريها. ومن أشهر الزخارف القمرية.. الشعاع، الرماني، المقبب، العقيق، الزنجيري والياقوتي. كما أن هناك ثلاثة أشكال رئيسية. نباتية كسنبلة القمح والبن والعنب وهي من نباتات البيئة اليمنية، وحيوانية وأغلبها يأتي من أنماط الأساطير الشعبية. والهندسية وتتوسطها نجمة ثمانية أو سداسية نظرآ لإشتغال اليهود بها فترة من الزمن.


 


صناعتها 


 


صنعت القمريات سابقآ من الألباستر «الرخام الشفاف» ويعود استخدامه كمادة تسمح بنفاذ الضوء لعصر ملوك سبأ حسب دراسة الباحث / تيم سميث. أما حديثآ فتصنع من الجص الأبيض «الجبس» الناتج عن حرق الحجر الجيري في محارق خاصة. فيما يتخلل فراغاتها المزخرفة بأشكال متنوعة الزجاج الملون. ويستخدم الحرفيون في صناعتها أدوات بسيطة كالفرجار، السكين، وبعض آلات حفر بدائية أخرى. وبحسب صانع القمريات «حسن الوصابي» فإن مراحل صناعتها تبدأ بخلط الجص بالماء إلى أن يصبح قطعة متماسكة ثم توضع على لوح خشبي تمهيدآ لمرحلة نقش الزخارف. وترسم النقوش حسب الطلب أو حسب إبداع الحرفي وخياله وحسه الجمالي وتتم عملية الرسم بواسطة الفرجار أو بقوالب خاصة أعدت مسبقآ ثم تنحت أخيرآ باستخدام السكين أو المثقب الكهربائي وأدوات أخرى. تترك القمرية ليومين أو ثلاثة لتجف وتبدأ عملية تثبيت الزجاج الملون من ثم يتم الانتقال للمرحلة الأخيرة وهي القيام بتنظيفها وإزاحة بقايا الجص المثبتة على الزجاج لتنتهي بشكل بهي ذي رونق يليق بالبيت اليمني الأصيل. كما أردف «الوصابي» أن مهنة صناعة القمريات لا تدرس في المعاهد الفنية وتكتسب بالممارسة أو بوراثة المهنة من جيل لآخر. أما عن أجود أنواعها فقد أكد أن المستخدم فيها الزجاج الألماني هي الأغلى ثمنآ كون الزجاج لا يتغير أو يبهت مع الزمن ومعظم مقتنيها من الأثرياء أما عن قمريات الألباستر فلم تعد متداولة وتتواجد في أقدم المنازل اليمنية أو المساجد العتيقة. 


 


أصالة وجمال 


 


لا يخلو بيت يمني من القمرية فهي سحر العمارة اليمنية والمعنى الاصيل لفن الزخرفة منذ قدم حضارتها وباعتقاد اليمنيين القدماء «بيت بلا قمرية هو بيت بلا بركة» ولا عجب في ذلك فالقمريات تضفي سحرآ من نوع خاص. ويكتمل سحرها بحجمها المضاعف في «المفرج» أو « الطيرمانة» -غرفة في سطح المنزل تخصص للضيوف وجلسات خاصة- «والدواوين» التي تخصص للمناسبات، لما لها من نور يبعث على الراحة والتناغم الروحي مع الطبيعة. وبين الماضي والحاضر، لا تزال القمرية هي المدلول الشعبي والرمز المتفرد لليمن حيث أصبحت رمزآ لمدينة صنعاء عندما اختيرت عام 2004 عاصمة للثقافة العربية. ولكن مؤخرآ ومع ظهور نوافذ الألمنيوم الحديثة والإقبال عليها هل ستستمر صناعة القمريات بالإزدهار؟! أم أنها تتجه نحو هاوية الإندثار؟! سؤال يطرح نفسه. 


 


مع الشكر للمصور الصحافي محمد حمود


وصانع القمريات: حسن الوصابي


حول الموقع

إل مقه - نادي القصة اليمني