الأعداد السابقة

القيم الجمالية في قصة مرايا للكاتبة فايزة زاد

خلدون الدالي

من المعلوم أنّ النّصُّ القصصيُّ القصير جداً، حافلٌ بالتنوّعِ والتحوّل، وقادرٌ على توليدِ الدّهشة، متَفرّدٌ بانزياحاتِه اللّغويّةِ، وكمائنِه الفنّيّةِ الإدهاشيّةِ، وصياغتِه الأسلوبيّةِ، وكثافتِه الجمليةِ المُحتشِدةِ بالإيحاءاتِ والصّورِ والرّموز، باعتمادِه اللّفظةَ المُركّزةَ، المُكتنِزةَ بالإيحاء، والمُتميّزةَ بالانسيابِ الجُمَليّ، الّذي يكشفُ عنهُ تناسُقُ الجُملة، داخلَ عوالم بناء النّص، بوحدةٍ موضوعيّةٍ مَركزيّةٍ يُحلّقُ حوْلَها المعنى، فيستفِزُّ القارئ، والّذي بدوره يستجيبُ لدفْقِه الجَماليِّ..


وباستدعاءِ القصة القصيرة جداً (مرايا)

التي أنتجتْ عَوالمَها النّصّيّةَ ذهنيّةٌ مُتوهّجةٌ، ونسَجتْها أناملُ الكاتبة الجزائرية القاصة ( فايزة زاد)


”مرايا“ 

صباحُ العيد؛ بكيتُ كثيراً، تَوَسَّلْتُ أمي فكَّ ضفائري، طبَعتْ قُبلةً على جبيني، تجمدّتْ دموعَها عند تَحَسّسها موضع شَعْري...!

صلعتي التي نفّرتْ بعض صديقاتي؛ غدتْ مرايا لرؤوسّهن..

----

جاء العنوان نكرة لِيُمارسَ تَكتُّماً يجعل القارئ متلهفاً للتطلُّع على فحوى النصّ ويدفعه أكثر لاكتشاف باطن القصة. 

لغةٌ قصصيةٌ تعتمدُ الإيحاء، والإضمار، والتّورية، الإختزال اللغويّ، والإيجازَ الجُمليَّ،و مُخاطبةُ القارئُ بلغةٍ تتشابكُ فيها الدّلالاتِ الفكريّةِ والعاطفيّةِ في لحظةٍ مِن الزّمن).

إضافةً إلى محاولةِ الإمساكَ بالنّسقِ الحِكائيِّ والتّوتّرِ الدّراميّ، وممارسةُ طقوسَ الارتقاءِ في جُمَلٍ موجزة، عميقة، حافلةٍ بالمجازِ والاستعارة، والإيحاء والإضمار.. 

ابتداءً مِن العنوانِ العلامةِ السّيميائيّةِ، والأيقونةِ الجاذبةِ برمزيته ” مرايا“ يُحيلُ ولا يُخبر، فيشكّلُ بؤرةً مركزيّةً تجتمعُ فيها خيوطُ النّصّ، فيمنحُ نسيجَهُ تَماسُكًا ووحدةً موضوعيّة، مُتمثّلةً بمَشاهدِهِ المُتوالدةِ، المُتّكئة على هاجسِ الاستجابةِ لإيقاعِ الحياة المؤلمة، فضلًا عن تأكيدِه على التّعاملِ النّفسيِّ والنّصِّ ببُعدَيْهِ الدّلاليّ والرّمزيّ..

وثمّة مفارقة تعبيرية وأسلوبية وفضائية بين العنوان والنص إذ ينحو العنوان نحواً تعبيرياً..

لو تمعنا أولاً في معجم الدَّوال المؤلفة للقصة لاكتشفنا حشّداً كبيراً من الدّوال ذوات التدليل المشترك في سياق شبكة من الجمل السّردية القصيرة المكتنزة في نشاطها الوصفي المركز لالتقاط صورة بصرية مؤلمة لشخصية القصة، و يمكن اختيار الجملة القصصيّة الأولى:

 (صباحُ العيدُ) وهي جملة خبرية تقدم الزمكانية في حالتها الظرفية بوصفِها يوماً للفرح والسّعادة للإنسان العربي على وجه الخصوص..

 ومن ثم تأتي الجملة الفعلية اللاحقة ( بكيتُ كثيراً) كي تحققُ مفارقةً مع الدّلالة لمفردة(العيد) ضمن السياق التقليدي لها، فالفعل الماضي(بكيتُ) جاء ليقلّب المعنى من احتمال الفرحِ والسّعادة نحو واقع الحسرة والألم، 

ويكشفُ عن تجربةٍ مؤلمةٍ مُتفجّرةٍ لشخصية القصة، تعكسُ الحالةَ النفسية، وتستنطقُ الزمكانية بَينَ تَعاريجِ الحُزنِ وشَظايَا«الفرح»؛

(عيدٌ بأي حال عدت يا عيد)

فأنتجتْ هذه الجمل صورةً ذاتيّةً مُتّكئةً على هاجسِ الاستجابةِ لإيقاعِ الحياة المؤلمة.. 

الّذي منحَ النّصَّ بُعداً جَماليًّا، وأسهمَ في تخصيبِ المعنى وتكثيفِهِ، وهي تبوحُ بوحًا أقربُ إلى حوارِ الذّات (المونولوجي)، مُستنطِقةً الزمكان، والدّالَّ الإشاريَّ المُتشعّبَ بأحداثِهِ، والّذي شكّلَ مع العنوان بؤرةً مركزيّةً تجتمعُ فيها خيوطُ النّصّ، فمنحَ نسيجُهُ تَماسُكًا ووحدةً موضوعيّة، مُتمثّلةً بمَشاهدِهِ المُتوالدةِ مِن تفجيرِ الفعلِ (بكيتُ)، الدّالُّ على الحركةِ الكاشفةِ عن الافعالِ الإنسانيّةِ مِن جهة، وتعريفه لتقريبهِ مِن الاسميّةِ والدّراميّةِ مِن جهةْ أخرى، فضلًا عن توظيفِها تقانةَ الرمز في لفظة ( صلعتي)

تكشِفُ عن بُعدٍ نفسيٍّ للذّاتِ المُنتِجةِ المأزومة، والباحثةِ عن جوابٍ يُسهمُ في توسيعِ مديّاتِ النّصّ..

ولعلّ العنوان بما يحملُ من طاقةٍ رمزيةٍ تستدرجنا إلى سؤال بديهي عن هذه «المرايا» وعما نود أن نراه على سطوحها اللامعة المصقولة، ثم ألا يوقع هذا العنوان ذاته بطاقتهِ الرّمزية في روعنا بأن هناك مرايا نقية صافية يمكن أنْ تعكس لنا حقائق الأشياء، وما يعنيه ذلك من أن هناك حقيقة واحدة، قد لا نختلف حولها لو أُتيح لنا جميعاً أن ننظر في هذا النوع من المرايا؟!

المرآة سوف تبقى تذكرنا بأنها ذلك الوسيط الذي لا غنى عنه لرؤية شيء مهم فينا، ربما يكون أكثر الأشياء تعبيرا عنا، وعن حقيقتنا، وحين تكون هناك «شروخ في هذه المرآة» فمن الطبيعي أن تأتي الصورة مشوشة، وألا يكون ما نراه هو صورة وجهنا الحقيقي، أو وجه الحقيقة كما هي..


تحاولُ السّاردة استنطاقَ اللّحظاتِ النفسية، عبْرَ نسَقٍ لغويٍّ قادرٍ على توليدِ الدهشة، ومِن ثمّ توسيع الفضاءِ الدّلاليّ للجُملةِ القصصيّة، باعتمادِها اللّفظةَ المُركّزةَ المُكتنِزةَ بالإيحاء، والمُتميّزةَ بالانسيابِ الجُمَليّ الّذي يكشفُ عنهُ تناسُقُ الجُملة، بوحدةٍ موضوعيّةٍ مَركزيّةٍ يُحلّقُ حوْلَها المعنى: 


«تَوَسَّلْتُ أمي فكَّ ضفائري، طبَعتْ قُبلةً على جبيني، تجمدّتْ دموعَها عند تَحَسّسها موضع شَعْري...!


فالكاتبة تستثمرُ الأمومة، لإضاءةِ بعضِ العوالمِ المعتمةِ بلغةٍ مَحكيّةٍ، عبرَ جملٍ مُشبَعةً بالرؤى الدّلاليّة، للتّعويضِ عن الحسرة الذّاتيِّة، بخلْقِ الرّؤيا؛ الحالة المانحة للنّصِّ قدرة التّدفّقِ الّتي يتماهى وطقوسها ومناخاتها...،

إضافةً إلى استثمارِها روح السّردِ الحكائي، وإقامة علاقةٍ حميمةٍ بين أجزاء النّصّ بجُملٍ موجزةٍ مُختزلةٍ، مُشبَعةٍ بالرّؤى الدّلاليّةِ والجماليّةِ المشحونةِ بطاقةِ التّوتّر، من أجل المحافظةِ على النسق الدرامي للقصة:


«صلعتي التي نفّرتْ بعض صديقاتي؛ غدتْ مرايا لرؤوسهن..» 

 لغةٌ مسكونةٌ بأبعادِها الرّامزةِ الدّالّةِ على كثافةِ العبارة، والكاشفةِ عن عُمق المعنى، فإنتقاء مفردة ”صلعتي“، التي أشارت إلى النقيض الذي كان، شَعْرٌ غزيرٌ وضفائرٌ طويلة، في صباح العيد، شَعْرٌ كانت الصحة هي بابه، والعافية مزلاجه...

صباح العيد، بكتْ لأنّها لم تفهم لماذا صديقاتها بضفائرٍ طويلة، وهي بتلك الصلعة، بكت لأنّها لم تفهم ما معنى أن تأتي «جرع الكيماوي»، لتُسقط شعرها، في معركة للظفر بحياتها كلها.


فتأتي جملة النهاية:

” غدتْ مرايا لرؤوسهن“،

مُتكأةٌ على مَسَاندِ الدّهشة؛ لتنْكأُ جُروحًا، ليتكشف الوجع، وتتّضحُ تفاصيل الرّحيل، وتتّحللُ ”صلعتها“ الحليقة، في عالم الأرض، وتختلطُ مع رملها، ليُصنع من هذا الرمل مرايا أخرى، تتباهى بها صديقاتها بشعورهنّ الجميلة..


وهكذا، وببراءةِ طفلةٍ مُسكونةٍ ببراءةٍ صافية، لا ترى مكاناً للحياة في جسدها و  «الداء الخبيث» يمكثُ في خلايا جسدها...

 فالمكان الوحيد الذي يُمِكِنُ أنْ يَحْتَمِلَ وجودها هو الرحيل إلى عالمٍ آخر..

 وبهذا تصل «الطفلة» عبر «الكاتبة» إلى إقامة موازاةٍ تطابقيَّة كاملة بين «المرض و»الإنسان» بما ينطويان عليه من تَوحُّشٍ لم يسبق أنْ عرفته الحياة الإنسانية التي تعرفها الكاتبةُ بقدر ما تعرفها الطِّفلة».


وهكذا تلتقي الصُّورتان في ذهن القارئ، فتبدأ في عقد مقارنة بين «المرض الخبيث»، والحالة النفسية التي عاشتها بطلة القصة..

وميزة العنوان (مرايا) كونه عاكساً للأشياء، كاشفاً الصور الظاهرة والصور الباطنة، مُعريّاً الوجوه الحقيقية والوجوه المزيفة، فهي النّور الذي يكشف الظلمة، رمزيَّاً ودلاليَّاً وواقعيَّاً...


تكشفُ الجملة الأخيرة للقصة عن فحوى المقارنة وعمَّا أسفرت، فالسرطان:

«خطرٌ يُحيط بها من كل جانب.. ألمٌ، وعيدٌ، وأجلٌ

 ولا سبيل إلى اتِّقاء شره...

وأُدرك لدهشتي أن

” قصة مرايا”  تجربةٌ قصصية ناضجة، جديرةٌ بالقراءة والنقد، وهي إضافة نوعية للقصة العربية القصيرة جداً... 


و يبقى النّص مفتوحاً أمام تأويلاتٍ أخرى، وربما غابت عني جوانب كثيرة في محاورةِ النصّ وهذا مدعاةٌ لتقديم قراءات مغايرة..

 

حول الموقع

إل مقه - نادي القصة اليمني